الثلاثاء، أغسطس 31، 2010

زهرة الخشخاش وطريق العودة


بقلم
حمدي خليفة
نقيب المحامين
رئيس اتحاد المحامين العرب
وعضو مجلس الشورى
Hamdy_khalifa_2007@yahoo.com
www.Hamdykhalifa.com


ذهب كل ما في دربة للحديث عن السرقة الكبرى للوحة " زهرة الخشخاش " التي أبدعها الفنان " فينسنت فان جوخ " وله لوحات أخرى قيمة أفاقت عليه يديه بهم .... حيث عاش فقيراً ومات على ذلك ولم يهنأ بلوحاته التي أبهرت العالم وأصبح أسمه يدرس في جامعات العالم ... هكذا الفنان الذي يعيش من أجل الآخرين ولا يتم تكريمه سوى بعد قرون من مثواه الأخير ... وزهرة الخشخاش من أعظم لوحاته الفنية التي شاهد العالم من خلالها وبنظرة ثاقبة جاءنا الإبداع باقتناء محمد محمود خليل هذه اللوحة من الخارج إلى بيته العتيق بمصر الذي أضحى أشهر البيوت الفنية في العالم .. كما اقتنى لوحة الحياة والموت " لجوجان " وهي معروضة بالمتحف .. الفنان العبقري والسياسي المخضرم والوزير المسئول محمد محمود خليل الذي تولى وزارة الزراعة 1937 أي بعد عام واحد من ولاية الملك فاروق أيضاً تولى رئاسة مجلس الشيوخ ثلاث دورات لم يشغله ذلك عن طموحاته الفنية التي أرسي قواعدها في مصر والأمير يوسف كمال في العصر الحديث .. فكان لبلادنا طعماً ولوناً في هذه الحقبة التاريخية حتى ثورة يوليو التي جمدت الفنون وقتاً طويلاً إلا أن تم إحياؤه عقب نصر أكتوبر 73 لقد وهب محمود خليل وحرمة حياتهما من أجل الفن وكرسا مالهما من أجل التجوال حول العالم لشراء أعظم اللوحات حتى قصرهما وهباه لعاشقي الإبداع التشكيلي ملكاً للدولة .. حتى أضحى مزارا عالميا يعرف قيمته الأجانب أكثر من العرب وحرصت الحكومة الثقافية في مصر على تجديد المتحف منذ عشر سنوات حتى خرج بهذه الصورة التي نراه عليها اليوم فإلى جانب عمارته وفنه تجمله المساحات الخضراء والورود والأشجار في تحفة فنية لها جمال الصورة ..! لقد تعرضت زهرة الخشخاش للسرقة عام 1977 ولأنها لوحة خالصة وفلوسها من حلال فقد تركها اللصوص بجوار حائط بعد عام قبل إبلاغ الشرطة عن المكان .. وعادت اللوحة بكامل جمالها وبهائها ورونقها إلى بيتها في المتحف العتيق محمود خليل بالجيزة .. أما السرقة الثانية فتمت في 21 أغسطس من هذا العام على أيدي لصوص معدومي الضمير وهم محترفون وعالمون ببواطن الأمور وليسوا مثل لصوص الإجرام الذين يسرقون الغسيل من شرفات المنازل أو الذهب من محلاته ولكنهم تخصص مقتنيات مثل لصوص الآثار .. ومازال الفاعل مجهول وسيظل ردحاً من الزمن كذلك والتهمة الموجهة لرئيس قطاع الفنون التشكيلية هي الإهمال في المحافظة على مقتنيات الدولة وهو نفسه الذي خاطب وزير الثقافة أو مدير مكتبه منذ سنوات بضرورة تحديث دوائر إحكام متاحف مصر الفنية التي تزيد عن ثلاثين متحفا وعرض لذلك 40 مليون جنية ولم تعطه الدولة سوى 2/1 مليون جنية وهذا الرجل أو كبش الفداء " محسن شعلان " معذور في أشياء كثيرة منها عجز ميزانية وزارة الثقافة في تثبيت العمالة المؤقتة التي تدير هذه المتاحف من أمناء وحراس أمن تصوروا أن عشرات الشباب يعملون منذ أكثر من عشر سنوات ولم يتم تثبيتهم على درجات مالية حتى الآن ؟! ومتحف محمود مختار خير شاهد على ذلك ؟! ثم إن رواتبهم لا تتعدى العشرة جنيهات في اليوم الواحد وهم يقومون على رعاية تماثيل وألواح تفوق المليارات ؟! كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ .. والماء فوق ظهورها محمول ... ثم إن وزارة الثقافة تطلب بعد ذلك الحماية والرعاية ؟! إذا أردنا أن نحترم الفن ونقدره كدخل للدولة من الأجانب فعلينا إفاقة الموظفين الذين يقومون على مثل هذه الأعمال ..لقد لجأ متحف محمود مختار بالأوبرا إلى إقامة كافتيريا للزوار تزيد دخل المتحف الذي تحاسب الوزارة أمينة على كم الدخل وليس الكيف حتى يستمر في موقعة .. ثم أن شعلان الرجل الفنان القدير الذي كرس حياته في خدمة الفن ليس وحده شريكاً عن هذه السرقة الكبرى التي شوهت صورتنا أمام العالم وتناقلتها الأقمار الصناعية كرمز لتخلف دول العالم الثالث وتجاهل القدرة على رعاية وحماية الفن .. مليار دولار وضعها اللص في يده أو حقيبته بعد أن سلخها عن البرواز وخرج بها خروج الأبرياء بعد أن قتل القتيل ومشي في جنازته .. إن المنظومة الثقافية في مصر تحتاج إلى إعادة هيكله أما اللوحة فقد تعود يوماً ما كما عادت بعد عام من سرقتها سنة 1977 من نفس متحفها .. ولكن علينا أن نرتب أوراق الثقافة عامة خاصة في قطاع الفنون التشكيلية الذي أفترى عليه الجميع فهذه ليست أول سرقة تحدث أو حتى الثانية ولكن قبلها تمت سرقة لوحات هامة من قصر محمد على باشا بشبرا الخيمة وبعدها تم تجديد المتحف .. ولكن متحف محمود خليل وحرمة من أشهر المتاحف المصرية وتولية الدولة عناية فائقة وهذا الحادث الفردي الذي يعد ظاهرة تحتاج إلى ضخ دماء جديدة ترعي الثقافة في مصر وتحرص على مقتنياتها سواء في قصور الثقافة كي لا تحترق كما حدث ببني سويف أو الفنون التشكيلية والسرقات التي تكررت عبر العقود الأخيرة من العصر المعاصر .. وحماية أثارنا الفرعونية والإسلامية والقبطية حتى لا نسمع أن أبو الهول تم سرقته كما سرقت أنفة البالغة 7 متر قبل ذلك أو يتعرض المتحف الكبير لأي محاولات أو نرى أثار الأقصر في تناقص مستمر .. المسئولية هي مسئولية منظومة الثقافة جميعها ولا يجب أن نعفي منها أحداً فالكل مسئول أما شعلان كبش الفداء فهو أحد الأفراد وليس جميعهم .. والحراس والأمناء على المتحف معذورين لانشغالهم بإعداد طعام الإفطار والتفكير في هذا الجو المحرق في صوم ندعو الله أن يثبت الأجر .. ثم أن كاميرات المراقبة المعطلة مسئولية الشركة التي تقوم بصيانتها ومهمة العامل عليها الإبلاغ فور التوقف فقط وهذا ما تم .. إن اللص المحترف الذي قام بسرقة اللوحة من بروازها ليس شخصا عاديا ولكنه استغل كل الظروف التي تهيأت له لكي يفعل فعلته ولن يعود لسرقة لوحة الحياة والموت لجوجان التي توجد في نفس المتحف وحركة الطوارئ التي عمت جميع المتاحف والآثار المصرية لن تستطيع التوصل إلى الجاني لأنه فعل فعلته وهرب ويا سعده يا هناه حتى يهربها خارج البلاد وليس الآن لطوارئ المواني والمطارات ولكن في الوقت المناسب بعد أن تهدأ العاصفة وينشغل الرأي العام بقضية أخرى وأستطيع أن أجزم بأن اللوحة حتماً ستعود بعد عام كما حدث عند السرقة الأولى أو بعد عامين لأن مبدعها " فان جوخ " عاش حياته جائعاً مشرداً بثياب بالية ولاقي ربة وهو مقطوع الأذن بجسد نحيل فلم يهنأ بعراقة فنه وحياته الإبداعية التي يدرسها طلاب فنون العالم على أيدي أساتذة منهم من حصل على الدكتوراه في هذه اللوحة العتيقة ..فان هذا الفنان قضي حياة قاحلة جرداء لا زرع فيها ولا ماء وما له وأثاره حلال فلن تذهب للصوص كما أن الوزير الفنان محمد محمود خليل الذي اقتني هذه اللوحة ووضعها في بيته ضمن أشياء كثيرة من اللوحات والمقتنيات من التحف والخزف أخلص للفن وكرس حياته له رغم مناصبه السياسية التي تولاها .. ما سقناه يعد مؤشر حقيقي على عودة هذه اللوحة النادرة في وصفها للعالم الذي نعيشه والحياة التي نحن بصددها .. ولكن تغيير المنظومة أمر ضروري وخاصة أحوال العمالة المؤقتة والتغييرات المستمرة ثم إن وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى يجب عليه أن يهتم أكثر بقطاع الفنون التشكيلية لأنه متخصص فيه وله لوحات رائعة الجمال ... إن ثروة مصر الثقافية يجب الحفاظ عليها حتى لا تذهب مع الريح كما ذهبت لوحات متحف محمد على وأنف أبو الهول ونبكي بعد ذلك على اللبن المسكوب ونندب حظنا الثقافي الذي ضاع جزء منه في انتخابات اليونسكو ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق